لم يُكتب الكثير عن ظاهرة القذافي. ربما لأن ليبيا لا تزال تلهث في لملمة نفسها بعد سنواته الأربعين وفتوحاته الأولى. وربما لأن المؤهلين لمثل هذا العمل الشاق من رفاقه السابقين مُحرجون في الخيار، بين الشهادة للتاريخ والصمت عنه. والآن عندما يتأمل المرء الأربعين عاماً كاملة من الغرائب والنقائض والتدلل مثل طفل في حضن ليبيا، يتساءل، مَن ومتى سوف يؤرخ لتلك الحقبة التي لم تترك فيها الجماهيرية «ثورة» إلا ونقلت الجزء الكاريكاتوري منها، من «كومونة» باريس إلى ثورة ملك ملوك أفريقيا.
لم يكن يُظهر أي هم في نقل شيء. ومنها «الثورة الثقافية» التي حاول خلالها تطبيق تعاليم ماوتسي تونغ وملهياته القاتلة على الشعب الليبي. «دولة الخيمة» للكاتب الليبي مجاهد البوسيفي محاولة مهنية فائقة في تأريخ المرحلة الجماهيرية من ضياع ليبيا (منشورات الضفاف – الاختلاف)، ونعثر فيه على أجوبة كثيرة لما شهدناه من تحولات مفتعلة عبر السنين، بدءاً بالمرحلة الناصرية الأولى، حيث يؤكد الدور الأساسي الذي لعبه «مبعوث» مصر إلى الثورة، ورجل المخابرات، الراحل فتحي الديب. غير أن المؤلف الليبي سالم الكبتي يناقض هذا الكلام، ويقول إن دور الديب كان ثانوياً إلى حد بعيد.
وثمة خلاف أيضاً بين الكاتبين حول الصادق النيهوم وعلاقته المضطربة بالقذافي حتى وفاة الأول في منفاه الاختياري بجنيف. ويكشف البوسيفي سراً مذهلاً نقلاً عن الروائي إبراهيم الكوني، وهو أن الصادق كان يخطط للوصول إلى الحكم في ليبيا «لكن العسكر سبقوه لأنه اختار طريقاً أطول».
كان البوسيفي إلى سنوات جزءاً من مؤسسة الإعلام الجماهيرية. وشاهد من الداخل كيف تعمل. وكيف تتبدل وفقاً لأمزجة اللجان، خصوصاً لمزاج الأخ القائد وآخر ما تأثر به من أفكار جديدة. ويروي أن التغيير الكبير في حكمه كان يوم ضرب الأميركيون العراق، فأصيب بخوف شديد وقام بتسليم كل ما لديه من أسلحة.
ويحاول البوسيفي أن يشرح أسباب العداء الذي حمله القذافي للغرب، خصوصاً لبريطانيا. أما قرار «طرد» القاعدتين الأميركية والبريطانية من ليبيا فكان متخذاً أيام الملكية. وكذلك سلسلة من الخطوات التي تولت الثورة إعلانها وتبنيها فيما بعد.
«دولة الخيمة»، أو دول اللجان الشعبية، أو دولة إلغاء كل مظاهر ومعالم واحتمالات قيام دولة، دراسة في تجربة استمرت 42 عاماً. كلها قاتم، وقاتم مضحك وسوريالي وغريب. والجيد فيها قليل أو نادر. رجل يخترع لشعبه كل يوم شيئاً ونقيضه، ويحمّله الثمن الباهظ، حاضراً وغائباً.