“إنه ريحانة الشام وواحد من علمائها المعدودين” هذا ما كان يقوله لنا أستاذنا الدكتور عبد الجليل بدا خلال محاضراته في مدرجات جامعة حلب قبل سبع عشرة سنة.
ثلاثون عاماً مرت على رحيله عن هذه الدنيا، وإذا ذكر أحمد راتب النفاخ فإنك تجد كثيراً ممن يُنسبون إلى العلم والثقافة لا يعرفونه ولم يسمعوا به من قبل.
وإني إذ أتحدث اليوم عن ريحانة الشام فإني أتذكر حواراً دار بيني وبين أستاذي الدكتور عبد الجليل بدا قبل خمسة عشر عاماً، إذ سألته أيهما أكثر علماً، محمود محمد شاكر أم أحمد راتب النفاخ؟ فتوقف، وكان يمشي، ونظر إلي وقال: الفراهيدي، يا بني، لا يصمد أمام علم النفاخ وقوة حجته! وقال إن أحمد راتب النفاخ لم يكتب إلا القليل لأنه كان يرى نفسه لا يزال طالباً للعلم لا يحق له التأليف والتصنيف.
أحمد راتب النفاخ عالم سوري في الفقه والقراءات والتفسير والحديث واللغة والنحو والصرف والشعر وغير ذلك من علوم الدين والعربية وهو من أبناء دمشق من حي الصالحية، وهو علامة الشام وريحانتها.
لقد علّم أحمد راتب النفاخ الآلاف وتتلمذ على يديه الآلاف من طلبة العلم في سوريا وغيرها، وأشرف على رسائل ماجستير لكثيرين ممن تبوأوا مكانة مرموقة في مؤسسات تعليمية كثيرة في طول الأرض وعرضها، إلا أن هذا العَلَمَ النحرير لم يأخذ حقه في الشهرة، فإنك تكاد لا تجد إلا واحداً من الألف يعرفه أو سمع باسمه، في حين تطبق الآفاق أسماء بعض من لا يستحق شيئاً من أدنى شهرة أو سمعة بين الناس.
توفي الأستاذ أحمد راتب النفاخ في فبراير/شباط 1992. رحل النفاخ وخلّف في صرح العلم ثغرة قد لا تسد إلا بعد زمن، وإننا لنرجو أن ينهض بأعباء العلم والمعرفة من يكون أهلاً له، فيسد الثغر ويردم فجوة الجهل المنتشر فينا.
وقد كتب الأستاذ إبراهيم الزيبق كتاباً عنه بعنوان “أحمد راتب النفاخ: حجة العلم وتواضع العالم” وإنني لأظن أن العنوان وحده لَيعطي دلالة واضحة عن علامة الشام وريحانتها.
نال النفاخ درجة الماجستير سنة 1958م، من جامعة القاهرة ثم سجَّل موضوع رسالة دكتوراه في القراءات القرآنية، وبعد أن أنجز القسم الأكبر منها أحجم- لأمرٍ ما- عن إتمامها، وعاد إلى التدريس في جامعة دمشق (1962 – 1979م) وانتُخب عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1976م، ومما قيل فيه: “لقد عاش النفاخ في زماننا هذا بجسمه، وعاش مع الأوائل بعقله وعلمه ومنهجه وفكره، فكان من هؤلاء الذين قال فيهم أمير الشعراء: همْ في الأواخرِ مولداً *** وعقولهم في الأولينْ”.
تخرَّجت به أجيال من الطلاب ما زالت تذكر له ما بذله من جهد وما قدَّم من عون، وكانوا ينعتونه بلقب (علَّامة الشام/ريحانة الشام)، فقد أورثه حبه للعربية التمكن منها، بل جعله واحداً من نوادر الزمان في معرفتها.
يقول من عاصر الأستاذ النفاخ إنه لم يكن ممن يتعجَّلون في إنجاز بحوثهم ودراساتهم وتحقيقاتهم، بل كان يُؤثِر الأناة والرويَّة وإمعان النظر، فكان هذا سبباً في عدم إقدامه على تأليف الكثير من الكتب وتحقيقها واكتفائه بالقليل القليل الذي يطمئن إلى صحته وسلامته من المآخذ والهنّات.
وقد ألف “النصوص الأدبية” (منهاج شهادة الثقافة العامة في كلية الآداب)، ومختارات من الشعر الجاهلي، وفهارس شواهد سيبويه، وحقق ديوان ابن الدُّمَيْنة كتاب القوافي للأخفش.
وقد أورد كامل سلمان جاسم الجبوري اسمه في كتابيه معجم الأدباء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002 ومعجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002. كما عده يوسف بن عبد الرحمن المرعشلي من علماء القرن في كتابه “نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر”.
ولا أجد خاتمة أختم بها خيراً من كلمة الأستاذ الدكتور حسني سبح رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق فيه، وهي الكلمة التي استهل بها حفل استقبال الأستاذ النفاخ عضواً عاملاً في المجمع سنة 1976 وقد جاء فيها: “فالأستاذ النفاخ يُتَوَسَّمُ فيه أن يسد ثلمةً طالما تراءت منذ افتقاد المجمع الأساتذة الأعلام طيب الله ثراهم من أمثال المغربي والتنوخي وغيرهما. ولاغرو إن عدّ الأستاذ ثبتاً من الأثبات في علوم اللغة العربية لا في قطرنا فحسب، بل في الوطن العربي الكبير أيضاً”.