لوحتان لكاهلو وسولاج تحققان أسعاراً قياسية في مزاد بنيويورك و«رسالة إلى الأب»… صراخ وهمسات بخط اليد

لوحة «زاوية حوض زنابق الماء» (1918) للفنان الانطباعي كلود مونيه (أ.ف.ب)

حطمت لوحتان نادرتان للمكسيكية فريدا كاهلو والفرنسي بيار سولاج الرقمين القياسيين لأسعار أعمال هذين الفنانين في مزاد أقامته دار «سوذبيز» بمقرها في نيويورك، إذ بيعتا مساء أول من أمس (الثلاثاء) في مقابل 34.9 مليون دولار و20.2 مليون دولار.
فكما كان متوقعاً، تمكنت لوحة «دييغو إي يو» (دييغو وأنا)، وهي بورتريه ذاتي لفريدا كاهلو يظهر فيه زوجها دييغو ريفيرا على جبينها، من تحطيم الرقم القياسي للفنانة المكسيكية الشهيرة البالغ ثمانية ملايين دولار لقاء بيع عمل لها عام 2016.
وأعلنت «سوذبيز» ترسية لوحة كاهلو على «مجموعة إدواردو ف. كوستانتيني»، وهو رجل أعمال أرجنتيني وجامع أعمال فنية أسس متحف الفنون الأميركية اللاتينية (مالبا) في بوينس آيرس.
وبذلك أصبحت «دييغو إي يو» أغلى عمل غني أميركي لاتيني في تاريخ المزادات، علماً بأن الرقم القياسي السابق كان للوحة «لوس ريفالس» لدييغو ريفيرا نفسه، رسمها عام 1931 وبيعت في مقابل 9.76 مليون دولار في مزاد لدار «كريستيز» عام 2018.

وهذه اللوحة الزيتية المنجزة على لوح من خشب المازونيت ترتدي رمزية كبيرة لرسوم البورتريه الذاتية التي اشتُهرت بها حول العالم هذه الرسامة المكسيكية والأيقونة النسوية التي توفيت سنة 1954 عن عمر 47 عاماً.
ولكن في هذه اللوحة، يظهر وجه دييغو ريفيرا على جبين فريدا، فوق عينيها السوداوين اللتين يبدو وكأن بعض الدموع تنزل منهما، تعبيراً عن العذاب الذي سببه لزوجته إذ كان في ذلك الوقت على علاقة بالممثلة المكسيكية ماريا فيليكس.
أمّا لوحة بيار سولاج التي كانت طوال أكثر من 30 عاماً ضمن مجموعة خاصة، فتعود إلى المرحلة الحمراء للفنان الفرنسي الذي تجاوز عمره المائة، والذي اشتهر بتميزه في إتقان الرسم باللون الأسود. وقد رسم هذه اللوحة في 4 أغسطس (آب) 1961. واعتمد فيها تقنية الكشط التي تكشف عن الصبغات الحمراء تحت الأسود، على ما شرحت «سوذبيز».
وكانت قيمة اللوحة مخمنة بما بين 8 ملايين دولار و12 مليوناً، لكنها بيعت مقابل 20.2 مليون دولار بعد تنافس محتدم بين عدد من المزايدين المشاركين حضورياً أو بواسطة الهاتف. وتجاوز ثمن اللوحة بأشواط الرقم القياسي السابق الذي حققه أحد أعمال سولاج عام 2019 في باريس والبالغ 10.8 مليون دولار.
ومن أبرز ما شهده مزاد «سوذبيز» مساء أول من أمس، أيضاً بيع لوحة «زاوية حوض زنابق الماء» (1918) للفنان الانطباعي كلود مونيه في مقابل 50.8 مليون دولار، بعيداً من رقمه القياسي البالغ 110.7 ملايين دولار والمحقق في نيويورك أيضاً عام 2019.
وتبدو حصيلة مزادات الخريف النيويوركية هذه السنة إيجابية بعد مواسم عدة شهدت بعض التراجع، إذ أكدت دارا «كريستيز» و«سوذبيز» أنّ المعروض عاد إلى المستوى الكفيل تلبية الطلب الذي بقي كبيراً رغم الأزمة الصحية.

«رسالة إلى الأب»… صراخ وهمسات بخط اليد

شذى شرف الدين تُكرم الورقة والقلم والحبر عبر فرانز كافكا
بيروت: فيفيان حداد

«في النهاية، ليس ضرورياً التحليق إلى قلب الشمس، يكفي السعي إلى مكان صغير نقي على الأرض تضيئه الشمس من حين إلى آخر، ليستطيع المرء أن يجد بعض الدفء». بهذه العبارات التي نسختها شذى شرف الدين من كتاب فرانز كافكا بخط يدها، يمكننا اختصار القيمة الفنية لمعرضها «رسالة إلى الأب» في «مركز مينا للصورة». فهو بمثابة بقعة ضوء دافئة تحتضنها بيروت في خضم أزماتها، فتتيح لزائرها أن يحلق بأحلامه إلى عالم فني لا يشبه غيره.

في المعرض لوحات مكتوبة بخط يد شذى شرف الدين بالعربية والألمانية نسختها عن رسالة فرانز كافكا إلى والده التي لم تصله أبداً، موزعة على كامل أرجاء المكان المضيف، بالتعاون مع «غاليري صالح بركات».

نستعرض قطعاً فنية بسيطة بفكرتها وعميقة بمحتواها. وضمن بنية هندسية تذكرنا بالمخطوطات الإسلامية تأخذنا شرف الدين في مشوار حميم استحدثته بين الورقة والقلم. كتبت بأحرف منمنمة محتوى عزيزاً على قلبها، كما تقول.

ألفت خارطة طريق حدودها 1600 كلمة عليها أن تجمعها في صفحة واحدة. «من هنا تكمن صعوبة هذا العمل الذي اضطرني أن أكتب نحو 2000 كلمة كوني قمت بإعادات كثيرة كي أصل إلى الهيكلية التي أرغب بها. استغرق مني هذا العمل وقتاً طويلاً لإنجازه بلغ نحو ثلاث سنوات. كنت أكتب بمسؤولية وشغف آخذة بعين الاعتبار القيمة الفنية للورق الذي أستخدمه. فهو من نوعية نادرة آتية من المكسيك، وبالكاد كنت أملك عدد الورقات اللازمة لإنجاز مهمتي».

تجذبك مخطوطات شذى شرف الدين بمحتواها وشكلها وكيفية تقديمها لعين ناظرها. أجواء المكان ذو الإضاءة الخفيفة التي ترافقها تسجيلات بصوت شذى تقرأ فيها مقاطع من كتاب كافكا، تزودك بمشاعر وأحاسيس مختلفة. وفي خضم رهبة الموقف الذي تفرضه عليك هذه الأجواء تبدأ في تحليل عملية البوح التي تقوم بها شرف الدين بسلاسة، بحيث لا تستطيع إلا أن تصغي إلى علاقة حب وطيدة بين الورق والقلم. «هدف الفكرة كان أن أجمع محتويات كتاب كافكا «رسالة إلى الأب» ضمن صفحة واحدة. بدأت مشواري مع النص العربي الذي اضطررت إلى إجراء تعديلات على المترجم منه كي أفهمه. ومن ثم انتقلت إلى النص الألماني الذي انطبع في ذاكرتي عندما قرأته. استمتعت في نسخه لأنّه ينقل مشاعر كافكا كما هي، تماماً كما كتبها متوجهاً بها إلى والده».

تكسر شرف الدين الهالة الافتراضية التي تطبع عملية التواصل الطاغية على مجتمعنا العصري اليوم. ومع الورقة والقلم نستعيد قيمة الكتاب والكتابة والقلم والورقة الغائبة عن بال جيل اليوم بسبب الرسائل الإلكترونية. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم أكن أهدف للإشارة إلى هذا الغياب عن حياتنا. فما أنجزته ينبع من حبي وعشقي للكتابة العادية بعيداً عن فن الخط (كاليغرافي). فلطالما انبهرت بالخط العادي عند الناس، الذي يدفعني إلى تأمله والغوص فيه. أعتبره بمثابة بصمة من نوع آخر يتركها الإنسان، وهذه هي طبيعة المزاج الذي لفني وغمرني أثناء القيام بهذا العمل الفني».

تلمس حضور شرف الدين في خطوط الرسائل المعروضة، وتتخيل حركة القلم بين أناملها التي تترجم مشاعر دفينة خرجت إلى النور بطبيعية. تحضر الوحدة والعزلة رغم السطور المتراصة، وكذلك الهدوء والسكينة ضمن قراءة صامتة. وهي مجتمعة تؤلف لوحات تشكيلية مرسومة بتأنٍ ودقة. الريشة والألوان والشخصيات فيها هي القلم والحبر وأحرف طويلة وقصيرة تمزج بين الصراخ والهمس معاً.

تحضر علاقة كافكا بوالده الغائب الحاضر، بأفكاره ورسالته التي وجهها إلى والده من دون أن تصل إليه يوما في أعمال شرف الدين. لا تربط هي الموضوع بعلاقتها مع والدها بالمباشر، بل بالحضور الطاغي للأب عامة في العائلة. «هذا النص عزيز على قلبي لأنّه يحكي عن حالات روحية تسري فينا ونعيشها مع أهلنا. فبغض النظر عن طول الرسالة وقوة وهجها، فإنها تحكي عن عدم القدرة على التواصل. انتقد كافكا والده، فالرسالة لم تطبعها علاقة الحب. وبدوري تحدثت عن سلطة الأب التي تُغلّف وجوده العائلي، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى فقدان الكثير من الذات. فتكون أحياناً، حادة تحد من حرية الفرد بفعل السلطة الأبوية».

بالحبر القاتم والفاتح وبخلفية ورق مضيء، يعكس وهج النور الذي يشع من أحرف سميكة ورقيقة، خطّتها الفنانة التشكيلية بشغف على خلفية ورق أبيض، تدور السطور حول بعضها وأحيانا تفلت خارج هامشها. «وجدت نفسي أكتب بشكل حلزوني على الورقة. كنت أنسخ بحركة تلقائية أجعل فيها يدي على إيقاع تحدده الفقرات أو الكلمات»، توضح شرف الدين في سياق حديثها. وتؤكد أنّها لم تحضر عندها مرحلة الطفولة أثناء قيامها بهذه المهمة. ورغم أنّ هذه المخطوطات تلامسك عن قرب وتذكرك ببدايات مشوارك مع القلم والورقة فإنها توضح: «في تلك اللحظات أي أثناء كتابتي للنص، لم أتذكر طفولتي بتاتاً. ولكن دعيني أقول لك أمراً، لقد ذكرتني الآن بتلك المرحلة عندما أمسكت بالقلم لأول مرة وأنا في عمر صغير لا يتجاوز السنوات الثلاث، أذكر أنني سُحرت بعملية الكتابة فكنت أعتبرها نوعاً من الرسم. فتركيب الأحرف مع صوت القلم على الورقة حفر في داخلي وأبهرني».

وتحمل رسالة كافكا التناقض بالمشاعر تجاه والده، كذلك نلمس الأمر نفسه في عملية بناء لوحات شرف الدين. فالمخطوطات المعروضة يسكن فيها القمع والعزلة والحرية والحب، ومرات الخروج عن الطور. وفي الوقت نفسه هي محكومة بمساحة محددة استخدمت فيها قلم الرصاص مرة وقلم الحبر اللبادي (feutre) مرة أخرى. تتألف من الخط المنمنم الذي لا نستطيع قراءته بسهولة، وفي المقابل يكبر حجمه ويتضخم في رسالة طويلة كتبت بالأحرف الكرشونية، معلقة وسط المعرض لا نهاية لورقها الملفوف وتشبه الفرمان. «لقد فاق طول رسالتي هذه الخمسة أمتار وكان يمكن أن تطول أكثر. هذا لا يعني شيئا، إذ مهما طالت، فذلك لن يغير في صعوبة إيصال ما أريد قوله».

حالة من التأمل رافقت الفنانة شرف الدين أثناء قيامها بهذه المهمة. «السينوغرافيا منفذة بطريقة حميمة، حتى في تقسيم اللوحة تلمسين الوحدة مع الذات. وعندما تكتبين الأحرف المنمنمة فإنك تدخلين لا شعوريا بحالة تأمل، وأثناءها ممنوع الغلط. فلا مجال لأن تشردي ويضيع تركيزك، وإلا ستعودين إلى نقطة الصفر فتمحين وتكتبين من جديد، وهي عملية لا تتحملها نوعية الورق التي أستخدمها».

تجمع شرف الدين مخطوطاتها هذه بنسخ وأحجام مصغرة ضمن صندوق فخم يشبه إلى حد كبير الكتاب. «هذه المخطوطات عزيزة على قلبي إلى حد أعتبرها كنوزاً من نوع آخر. الصندوق صممته نتالي المير (اختصاصية غرافيك ديزاين) كي أجمع فيه هذه التكريمات للقلم والورقة والكتاب والحبر، ولرسالة كافكا بشكل رئيسي».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *