مغامرة سردية شيقة ومهمة تخوضها الشاعرة والكاتبة ميسون صقر، في كتابها «مقهى ريش… عين على مصر»، الصادر أخيراً عن دار «نهضة مصر» للنشر بالقاهرة؛ محولة المقهى بطابعه «الكوزموبوليتاني» العريق بوسط العاصمة القاهرة إلى معول للنبش والإبحار في التاريخ والأفكار والرؤى والوثائق والعادات والتقاليد، ومدارات الثقافة والسياسة وتحولاتهما الفارقة التي وصلت إلى حد الصراع والثورة على طاولات هذا المقهى الذي شكل واحدة من أهم البؤر الحاضنة لكل هذا النشاط في مصر منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وشهد نهضتها الحديثة التي انطلقت على يد محمد على (1805 – 1849) وامتدت مع خلفائه من الأسرة العلوية.
يقع الكتاب في 650 صفحة وتشكل فصوله الأربعة (القاهرة الخديوية – المقاهي في حاضرة القاهرة – دفتر أحوال ريش – مقهى ريش) موسوعة مصغرة للقاهرة تجوب في الأماكن والمقاهي والبنايات والقصور، تستقصى طرز عمارتها وتاريخ نشأتها، كما تستقصي الحدائق والميادين والتماثيل والكباري الواصلة بين ضفتي المدينة التي حصلت في ذلك الزمان (1925) على وسام أجمل وأنظف مدينة في حوض البحر المتوسط وأوروبا، متفوقة على عواصم أوروبية كبيرة وعريقة، على رأسها باريس ولندن وبرلين.
بعين حكاءة يتجول الكتاب في تاريخ تلك الحقبة في قوس شاسع يمتد حتى أحداث وتداعيات ثورة 25 يناير 2011 التي تفجرت وقائعها في ميدان التحرير على بعد خطوات من مقهى ريش. ويوثق للمكان بالكثير من الوثائق والشواهد، من بينها عقود وخطابات ومراسلات ومحاضر بوليس وحسابات بنوك وإعلانات لحفلات فنية، وينفرد الكتاب بمجموعة من الوثائق والمستندات غير المعروفة عن نشأة المقهى، وحقيقة الأرض التي بني عليها وملاكه ومستأجريه على مدار أكثر من مائة عام. كما ينفرد بالكشف عن ماكينة طباعة يرجح أنها كانت تستخدم لطباعة المنشورات السياسية، عثر عليها في أثناء عملية الصيانة والترميم للمقهى عقب الزلزال العنيف الذي ضرب مصر عام 1992.
مرايا متجاورة
تتفاعل فصول الكتاب مع بعضها بعضاً في بوتقة واحدة، وينعكس كل فصل على الآخر، فتبدو وكأنها مجموعة من المرايا المتجاورة، لا فصل بين السياسي والثقافي، بين التاريخي والاجتماعي، بين الفني والوجدان العام. إنها الحالة المصرية بامتياز، وفي واحدة من أسطع تجلياتها، هكذا تقبض عليها ميسون صقر بشغف ومحبة، ولا تنسى أنها – رغم أرومتها الإماراتية – ابنة هذه الحالة، عاشت في نسيجها وتشربت روحها وهي بعد طفلة عمرها 5 سنوات. هذه المحبة الوفية كانت وراء هذا الجهد المضني الذي بذلته في هذا الكتاب على مدى سنوات عديدة حتى خرج للنور.
يبدأ الكتاب باستهلال خاطف يوسع من أفق الرؤية، ويبرز معنى العين في التراث الحضاري والموروث الشعبي المصري، وكيف تعددت رمزيتها وأصبحت دلالة على المكان والحكمة والعاطفة، ومضرباً للأمثال: «عين الحياة، عين حورس، عين شمس، العين السحنة، مجرى العيون، عين الحسود فيها عود، العين عليها حارس».
وفي المفتتح يتعمق هذا الاستهلال، ويتحول من «موتيف» شعبي إلى حجر أساس يساهم في الربط بين الأماكن وما تثيره من فكرة الانتماء، وفكرة الصورة كنواة للتكوين «فالصور لها قدرة حميمية وفاعلة في التأثير على تصورنا عن المكان، تلتصق بالجسد والروح». لكن هذا التصور ليس محض صدفة عابرة، إنما ينطوي على تجسيد عميق لفكرة الخصوصية، خصوصية المكان وتقاطعاته الحية في حركة الزمن والبشر والأشياء، ثم التعايش والحيوية ما بين كل عناصر اللوحة/ الكتاب، وكيف في انجذابها للماضي ينبثق الحاضر بأسئلته الحارة ووقائعه الشائكة.
تحت هذه المظلة تبزر «ريش» حالة متناغمة خلقت تميزها من سر موقعها وتفرده، وبقيمة روادها، كما تبرز روح المكان ومحاولة القبض عليها في كل تجلياتها، حسبما يشير الكتاب: «في ريش، ربما يكون المثقف هو القادر على التقاط هذه الحساسية المرهفة لروح المكان، التي امتزج فيها الثقافي والسياسي والفني بالاجتماعي، مشكلاً حراكاً حراً للإبداع، قادراً على إثارة الحوار بين أجيال وأطياف شتى من المثقفين والمبدعين والشعراء».
لا ينفصل الحوار عن الحكاية فهو ابن معناها وطبقاتها المتعددة والمتنوعة وكتلها المجمعة والمتناثرة، كما يتجاوز الحكي بإيقاعه الحي ولغته السلسلة فكرة الأثر كشاهد عابر، ويتحول إلى جسر يربط ما قد كان بما هو كائن بالفعل… هذه واحدة من مناطق الجدارة الجمالية في الكتاب فالأثر ليس بما مضى، بل بما هو مقيم وباق، حتى ولو كان بقعة ضوء وصورة على جدار: «كُتلٌ وتَجمعات ومجموعات تلتقي وتفترق، لكن صوتَهم يظل يرن في أرجاء القاعة، وأنفاسهم تظل عالقة بالكراسي والطاولات… وكأن كل نفس جديد يستعيد صورة من كانوا هنا ورحلوا؛ في مزيج يتصاعد بين الماضي والحاضر… فمن جلس على هذه الطاولة أو تلك، لم يكن في حاجة إلى شهادة محبة للمكان، حسبه أنه يأتي، يعبر ويمر مع الضوء من خلال الزجاج والطريق المؤدي إلى المكان».
إضافة إلى ذلك، ثمة وعي ثاقب بجدلية المتن والهامش وتضافرها في تكوين الكتلة/ المقهى، وتلمس أبعادها التي قد تتناثر في حكايات صغيرة، بعضها في سياق هذا التضافر قد يكون ناقصاً ومبتوراً وهامشياً، لكنه يبقى مهماً في سياق الكتابة، واستعادة اللحظة ومحاولة تثبيتها بخصوصيتها لفترة أطول، وفي حياة أخرى، وهامش آخر.
ومن ثم، لا يبحث الكتاب عن حقائق مكتملة بذاتها، وإنما هي حقائق تسعى إلى الاكتمال بضعفها وهشاشتها وأخطائها. فهكذا، يمكن أن تستعاد الحكاية من جراب الماضي مرات ومرات، وفي كل مرة ثمة عين تنظر إليها بشكل جديد.
السياحة في المكان
ورغم أن تاريخ مقهي ريش يعود إلى عام 1908 إلا أن ميسون صقر تبدأ سياحتها في متن المكان من نقطة أوسع، فتمر على القاهرة في عصورها التاريخية المتعاقبة: الفرعوني والروماني والإسلامي، وترصد أهم معالمها وأسمائها في كل عصر: «أون»، «عين الشمس»، «هليوبوليس»، «الفسطاط»، «مدينة القطائع»، ثم القاهرة نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي، وتتوقف عند أشهر معالمها آنذاك ومنها: حصن بابليون، الكنيسة المعلقة، كنيسة أبي سيفين، قباب البنات السبع، جامع عمر بن العاص، وتستمر السياحة بإيقاع الرصد والنبش والتحليل للوقائع والقصص والحكايات حتى عهد محمد على، وبداية النهضة المصرية الحديثة، والمشروعات الكبرى في الصناعة والزراعة والتعليم وتحديث الجيش، والاهتمام بالري ومياه النيل وإنشاء القناطر الخيرية، ودخول الإنارة البلاد. ثم صعود قوس النهضة إلى تخوم الحداثة في عصر الأسرة الخديوية، بخاصة عصر إسماعيل مؤسس القاهرة الحديثة الذي جعلها «قطعة من أوروبا».
رمانة ميزان
في هذه السياحة من بين مقاهي القاهرة التي يرصدها الكتاب، تبقى ريش رمانة الميزان، للمتن والهامش معاً. فحين يلتقي على طاولتها رموز المعارضة وشبابها من المثقفين والكتاب والفنانين والشعراء وكل طوائف المجتمع، منذ ثورة 1919، وحتى ثورة 25 يناير 2011، وحين يتخذها عريان سعد طالب الطب نقطة ارتكاز لاغتيال رئيس الوزراء يوسف وهبة لاتهامه بالخيانة، وذلك في أثناء مرور موكبه صباحاً من ميدان سليمان باشا على بعد خطوات من المقهى، وحين تنطلق منها المظاهرات ضد اتفاقية كامب ديفيد، وغيرها من الأحداث المهمة التي يذكرها الكتاب، حينئذ يتحول ريش إلى هامش وطني يقلق المتن ويهدد سلطته على شتى الأشكال السياسية والاجتماعية والثقافية، متميزاً عن غيره من المقاهي التي كان معظمها مجرد مكان للهو وتمضية الوقت.
أسس المقهى وأطلق عليه اسم «ريش» رجل الأعمال الفرنسي هنري ريسنييه، وحرص على أن تكون به لمسة من المقاهي الفرنسية، ثم تعاقب على ملكيته أربعة أجانب آخرون، معظمهم من اليونانيين، حتى اشتراه في عام 1962 المحاسب عبد الملاك ميخائيل وكان أول مصري تؤول إليه ملكية المقهى.
حفر المقهى تاريخه عبر ملاكه ومستأجريه الستة، وصمد كثيراً في وجه الزمن والمحن، واستطاع أن يكون مرآة تعكس ما استقر في الوجدان العام باسم «الروح المصرية»، وهو ما ميز فترة مالكه الثالث ميشيل بوليتس، اليوناني المغامر محب الفن والثقافة، الذي يعد مؤسس نهضة ريش، فقد وعى دوره، وخاض حرباً إدارية مع البوليس من أجل أن يلحق بحديقة المقهى كشكاً للموسيقى، ثم مسرحاً، استقطب نجوم الطرب والغناء في تلك الفترة، وبعد مماطلة البوليس في إعطائه الترخيص بحجة إزعاج السكان، تضامن السكان مع الفكرة ووقعوا على عريضة شعبية بقبولها، فشقت طريقها إلى الوجود قبل أن يحصل بوليتس على التصريح بذلك رسمياً. لقد تشبع بوليتس بالروح المصرية، وكانت الحافز وراء نظرته لتوسيع أنشطة ريش، ليصبح بمثابة ملتقى متنوع للثقافة والفن، ثم يأتي لقاء نجيب محفوظ أو ما عرف بـ«قعدة الجمعة»، التي أصبحت بمثابة دفتر أحوال الحالة المزاجية المصرية المفتوحة على هموم السياسة والثقافة والنضال.
يجسد الكتاب هذه الحالة بعمق وينفتح على تخومها بمخيلة خصبة، كما يرسم صوراً وبورتريهات لها، تنبض بملامح أزمنة وأمكنة وخطوات بشر معظمهم رحل لكن لا تزال أرواحهم تسكن المكان.
رواية كورية تكشف عن معاناة الفقراء زمن الاحتلال الياباني
تصور رواية «ملح» للروائية الكورية كانج كيونج آي، التي صدرت حديثاً عن «دار صفصافة»، مستوى الفقر الذي بلغ حده الأقصى من التدني في كوريا زمن الاحتلال الياباني لها. وتحكي الأحداث قصة سيدة فقدت زوجها بعد مقتله في ظروف غامضة جراء اندلاع مشاجرة بينه وبين أحد ملاك الأراضي الصينيين، وأفراد من إحدى العصابات التي كانت منتشرة خلال تلك الفترة بريف وقرى كوريا في بدايات القرن العشرين. كما تتابع المؤلفة تحركات «أم بونغ يووم» بطلة الرواية ورحلة معاناتها وهي تفقد أبناءها واحداً وراء الآخر، فضلاً عن ضياع أحلامها التي تتسرب من بين يديها تحت سيف الفقر والعوز والمرض الذي أوهن صحتها وقتل ابنتيها بعد أن أصيبتا بالتيفود.
وترصد الرواية؛ التي قدم نسختها العربية المترجمان: المصري الدكتور محمد جلال والكورية كاهو جيم، حياة العائلة ومعاناتها في بلدة «سانتاوكو» بعد مقتل الزوج، فحين يغادر الابن من أجل العمل ليوفر لنفسه مصروفات إكمال تعليمه، تضطر الأم وابنتها الصغيرة إلى اللجوء لمنزل «بانغ دونج» الثري الصيني الذي كان زوجها الراحل يعمل في فلاحة أرضه… هناك عاشت الأم وابنتها، وتولت خدمة أسرته، لكن في أحد الأيام انتهز الرجل غياب زوجته واغتصبها، ثم طردها بعد أن عرف أنها حملت منه، وقد فعل ذلك تحت ذريعة انضمام ابنها «بونغ شيك» إلى أعدائه من الشيوعيين، وهكذا دخلت المرأة وطفلتها من جديد في دوامة التشرد والخوف والجوع والإحساس بالظلم والقهر والاستغلال.
وتستخدم الكاتبة «الملح» الذي عنونت به روايتها، مستغلة غلاء ثمنه وندرته في بيوت فقراء كوريا، بطريقة رمزية، لتشير إلى أن معيشة الناس في تلك الأيام كانت بلا طعم، ولا معنى، مثل الطعام الذي يقومون بطهيه دون ملح ويبتلعونه كأنه الحصى رغماً عنهم.
وتشير الأحداث؛ التي توزعت على 6 فصول، إلى أن بطلة الرواية صارت تعيش بعد فقد زوجها حياة مأساوية، فلم يعد لديها ما يمكنها من توفير لقمة عيش لها ولابنتها «بونغ يووم»، كما استمرت معاناتها وأسرتها من أفراد الجيش الذين لم يمنعهم أحد من الهجوم على القرى والبيوت وسلب المال والمحاصيل المخزونة، فقاموا بقتل ابنها «بونغ شيك»، وأضاعوا أملها في أن يعود من غربته ويتحمل المسؤولية مكان والده. أما أفراد العصابات الذين كانوا وراء جريمة قتل زوجها، فلم يتوقفوا عند هذا الحد، واستمر أذاهم لتتعرض المرأة للاغتصاب على يد أحدهم.
ولم تمنع المعاناة التي تعرضت لها بطلة الرواية من مواصلتها أحلامها، وتطلعها لغد أفضل، أما مشاعر الكره التي كانت تكنها لـ«بنغ دونج» فلم تتغلب عليها ولم تجعلها تنفذ قرارها التخلص من طفلتها التي حملت بها منه، وفاضت أحاسيس الأمومة في قلبها بمجرد ولادتها، ولم يكن أمامها، للحصول على بعض المال، إلا العمل مرضعة في بيت أحد الأثرياء، لكنهم سرعان ما طردوها بعد أن علموا أنها تتسلل في الظلام لترضع طفلتها «بونغ هوي»، وبهذا ضاعت فرصة أخرى للعيش الآمن، وتنامى لدى المرأة الشعور بالقهر والغبن، وراحت تتساءل كيف تربي أطفال الآخرين ولا يسمح لها بتربية وإطعام ابنتها.
ولما لم تجد «أم يونغ يووم» وسيلة للعودة لرضيعها ابن الأثرياء «ميونغ سو»، نصحتها صديقتها بأن تعمل في تهريب الملح، وقد قبلت بالعرض رغم علمها بخطورة ما ينتظرها حال اكتشافها والقبض عليها… تعرف المرأة أن الشرطة سوف تصادر الملح، وقد تتعرض للقتل على يد أحد أفرادها، ورغم كل هذا؛ فإنها ذهبت وعادت بالملح، وبنجاحها في المهمة نمت في رأسها طموحات الربح والقيام بمشروع يحقق لها بعض الأمان، لكن حظها العاثر يجعلها تقع في قبضة رجال الشرطة الذين يكتشفون أن ما لديها من ملح غير مرخص، وأنها بهذا تخالف القانون ويجب أن تعاقب.
ويكشف المشهد الأخير في الرواية عمّا يمكن أن يفعله الإنسان من أجل وضع حد لما يقاسيه من أزمات، فبعد أن تقتحم قوات الشرطة حجرة «أم بونغ يووم»، ترفع المرأة صوتها، وترفض أن تتخلى عمّا لديها من ملح، وتصرخ في وجوههم وهي تقول إن أصحاب الأموال الكثيرة هم من يسلبون الملح… «اندلع الصراخ كاللهب الحارق، وهبت واقفة في تحفز».
وهكذا أنهت الكاتبة الرواية بنهاية مفتوحة لتضع القارئ أمام كثير من التصورات لما يمكن أن تؤول إليه الأحداث.